2008-12-05

البلهارسيا العدو الاول للمصريين


"تيودور بلهارس"..
قاهر البلهارسيا!






يدين المصابون بمرض البلهارسيا حول العالم وفي مصر خصوصا، لهذا الرجل بالشكر والعرفان، فالجملة الطبية الشهيرة بأن معرفة الداء هي نصف الدواء، تصف ذلك الدور الذي قام به "تيودور ماكسميليان بلهارس"، فبرغم أن دوره لم يتعد مجرد نقطة وحيدة على حرف في كلمة، فإنه استطاع بهذه النقطة أن يكون جملة مفهومة..

عداوة قديمة

في العام 1850 عثر "جورج إبيرس" على بردية مصرية قديمة في مدينة الأقصر كتبت قبل أكثر من 1550 عاما قبل الميلاد، وسميت هذه البردية بعد ذلك ببردية "إبيرس"، وتعتبر هذه البردية هي أكبر وأهم بردية طبية مصرية، حيث وصف الطبيب المصري القديم دودة غريبة الشكل تدعى (HRRW)، كما وصف أعراض مرض غريب ومضاعفاته، وطرق الوقاية منه أيضا.

وفي 1910 اكتشف العالم الإنجليزي الشهير الدكتور "أرموند روفر"، أن بويضات البلهارسيا موجودة في كلى كثير من المومياوات المصرية التي يرجع تاريخها إلى أكثر من 1300 سنة قبل الميلاد، وأن مضاعفات البلهارسيا البولية ظاهرة في الحالبين والمثانة.





دورة حياة البلهارسيا

وهكذا ظلت هذه الدودة تعادي المصريين، وتمتص دماءهم لآلاف السنين، وظلت لغزا صعب الحل يستنزف قوى المصريين وطاقاتهم، ويجعل حياتهم أكثر مشقة وصعوبة في ظل حياتهم المرتبطة بالزراعة والري..

حتى جاء "تيودور بلهارس" الطبيب الألماني إلى مصر عام 1850، ولم يمض سوى عام واحد على إقامته في مصر حتى أهدى أهلها اكتشافه الأول والأخير، وسجل اسمه في كتب التاريخ بالتالي.

"تيودور ماكسمليان بلهارس"

ولد "بلهارس" في سيجمارنجن بألمانيا في 23 مارس 1825، وقد أظهر منذ طفولته ميلا لدراسة العلوم الطبيعة، وأتم دراسته الجامعية في الفلسفة والآثار القديمة في فرايبورج 1845، ثم توجه إلى توبنجين لدراسة الطب، وتخرج فيها عام 1850 بعدما حصل على مؤهله العلمي.

وفي العام نفسه أقنعه أستاذه "فيلهلم جريزنجر" بالسفر معه إلى مصر للعمل كمساعد معه، حيث وجه إليه خديوي مصر الدعوة للعمل كمدير لهيئة الصحة ورئيس اللجنة الصحية المصرية، وهكذا توجه "بلهارس" إلى مصر، وقد قدم إليه أساتذته في علم التشريح نصيحة بأن يهتم اهتماما خاصا ببحث الأسماك الكهربائية الموجودة في نهر النيل، وأن يدرس بإمعان وعناية موضوع الطفيليات التي تصيب جسم الإنسان.



القوقع الحامل للميراسيديم

وفي 28/1/1851، أشار "بلهارس" إلى أنه قد اكتشف شيئا رائعا، حيث تبين أثناء تشريحه لأجساد بعض المصريين، وجود دودة من النوع الماص يبلغ طولها سنتيمتراً واحداً، وقد وجدها في الدم والكبد والمثانة وفي مواضع أخرى من الجسد، هذه الدودة أطلق عليها اسم Distanum Heamatobium، وأطلق العلماء اسم Bilharzia Heamatobium على المرض الخطير الذي يسببه توغل تلك الدودة في جسد المصاب، تخليدا لمكتشفها "تيودور بلهارس".

ومن أشهر الارتباطات المصرية بمرض البلهارسيا، موت عندليب الأغنية العربية "عبد الحليم حافظ" نتيجة مضاعفات هذا المرض، والإعلان المصري الشهير لمكافحة البلهارسيا والعادات الخاطئة المرتبطة بالترع والمصارف في الريف المصري.

"اطلع ياض يا عيد من المَيّة ياض، البلهارسيا هرت جتتك، طول ما تدي ظهرك للترعة، عمر البلهارسيا في جتتك ما ترعى.."!!

ومرض البلهارسيا سيظل مرتبطا لفترة أطول بذاكرة الصينيين بسبب واقعة حدثت عام 1950، عندما عزمت حكومة الصين على غزو جزيرة قريبة منها وهي جزيرة "فرموزا" وحتى تتمكن قواتها من النجاح في عملية الغزو قامت الحكومة بتدريب الجنود على كيفية اقتحام هذه الجزيرة التي تحيط بها المياه، وكان التدريب يتم في أنهار الصين المختلفة كبيئة مشابهة إلا أنها لم تعمل حسابا للعدو الحقيقي المتربص بالجنود في مياه الأنهار، وهو الطور المعدي "السركاريا"، وعند بدء تنفيذ عملية الغزو، كانت أعراض الإصابة المختلفة بمرض البلهارسيا تتضح على أجساد الجنود الصينيين، وأنهكت هذه الأعراض وما تلاها من الإصابة بالمرض أجساد الجنود مما أدى إلى إصدار القرار من الحكومة الصينية بإلغاء عملية الغزو نهائيا..

ما البلهارسيا؟

هو مرض طفيلي ينتج عن اختراق الطور المعدي من دورة حياة البلهارسيا "السركاريا" لجسد الإنسان، وهو خمسة أنواع أهمها وأكثرها خطورة البلهارسيا الأمعائية وهي تصيب الكبد بالتليف، والبلهارسيا البولية وهي تصيب المثانة بالتليف وينتج عنها سرطان المثانة والفشل الكلوي..






ذكر البلهارسيا

والإصابة بالبلهارسيا لا تنتج عن شرب الماء الملوث بالسركاريا، على عكس الاعتقاد السائد عند العامة، ففي هذه الحالة تموت السركاريا تماما نتيجة حموضة المعدة، ولكن طريق الإصابة يأتي عن طريق الاستحمام أو الوقوف مدة طويلة في البرك والمستنقعات أو المياه الراكدة، أو الأجزاء الساكنة من الماء، وهكذا يجد طور "السركاريا" طريقه إلى الإنسان عن طريق أي تشقق جلدي خصوصا بين أصابع الأقدام، في خلال ربع ساعة تخترق الجلد و منه للأوعية الدموية حيث تفقد ذنبها (ذيلها) ويحملها تيار الدم عبر الأوعية الدموية للنصف الأيمن من القلب ثم الرئة، وتتحول لما يسمى الدودة الصغيرة وتستمر في رحلتها العجيبة داخل جسم العائل مخترقة أنسجته المختلفة ومسببة للعديد من الأضرار في حوالي 5 أيام، ثم تنطلق حسب نوعها إلى الكبد أو المثانة عبر شرايين الدم، وتبدأ في إفراز البيض بكميات كبيرة مما يسبب التليف، وإذا حدث وتم إفراز هذا البيض مع فضلات الإنسان بجانب مصدر مائي راكد وبه القواقع المخصصة لنمو هذا الكائن الطفيلي "طور الميراسيديم"، ينقسم هذا الميراسيديم إلى 100 ألف سركاريا بعد يوم واحد، وتنطلق بدورها للبحث عن العائل وهو الإنسان، وتبدأ دورة حياتها من البداية، وهذا القوقع خُنثى -به الخصائص الذكورية والأنثوية- ويمكنه أن يطلق 100 مليون سركاريا!

ومن مضاعفات المرض الخطيرة حدوث السرطان أو فقر الدم الشديد أو دوالي المريء، وتضخم الطحال والكبد، والنزف المستمر مع الألم الشديد في حالتي التبول والتبرز.




كبد متليف


وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية (W.H.O)، إلى أن عدد المصابين بهذا المرض حول العالم وصل إلى 200 مليون نسمة، أكثرهم يقبع في المناطق الاستوائية وإفريقيا، وقد انتقل المرض أيضا إلى أمريكا الجنوبية عن طريق تجارة الرقيق في القرن الـ16.

مقاومة البلهارسيا

يعالج هذا المرض بمنتهى السهولة في مراحله الأولى، ولكن في مراحله المتأخرة قد يكون العلاج ليس له جدوى فعلية لأنه قد يُقضى على الطفيل ولكن الجسد يكون قد تضرر كليا بسببها، ومن أشهر هذه الأدوية praziquantel، ولذلك يجب مقاومة طفيل البلهارسيا من المنبع بالقضاء على القواقع نفسها، وذلك بالطريقة البيولوجية بتربية الأنواع المختلفة من الطيور المائية والأسماك مثل البط والقراميط التي تتغذى على القواقع، وإزالة الحشائش التي تتغذى عليها القواقع، أو بالطريقة الكيميائية برش المجاري المائية بالمبيدات التي تقضي على القوقع، وكذلك القضاء على المستنقعات وبرك المياه الراكدة وتنبيه الناس إلى العادات الخاطئة أو طرق الري القديمة، التي تتسبب في إصابتهم بالمرض.

نهاية المهمة

عشق "بلهارس" مصر، فدرس اللغة العربية حتى أتقنها، وألقى المحاضرات في مدرسة الطب بالقاهرة حتى أصبح أستاذا في علم التشريح، وأدى للمصريين خدمة عظيمة باكتشافه الطور المعدي من طفيل البلهارسيا، وأعان المستشرقين بعشقه لمصر ودراسته وشغفه بتاريخها وآثارها الفرعونية والإسلامية.

وكأنما انتظر الموت حتى ينهي "بلهارس" مهمته على أكمل وجه ليقتنصه بأحد جنوده، والذي كان "بلهارس" يقاوم ويحارب للقضاء عليه، ففي مارس 1862، صاحب الأمير "هرتسوج أرنست فون كوبورج" في رحلته إلى الحبشة، وأثناء علاجه لأحد المرضى بالتيفويد، انتقلت إليه العدوى وتوفي بعدها بأسبوع في القاهرة، وعمره لم يتجاوز 38 عاما.





ذنب البلهارسيا

يمكنك أن تشاهد "تيودور بلهارس" الأرستقراطي وملامحه الهادئة ومظهره الوقور كما يليق بأحد أشهر قاهري الأوبئة والأمراض، سيظل "بلهارس" دائما في ذاكرة المصريين بما أهدى لهم من خدمة عظيمة، ومعظم المعاهد التي تعنى بمقاومة مرض البلهارسيا أو مضاعفاته والأمراض المرتبطة به تصر على أن تمنح المعهد اسم "تيودور بلهارس"... تخليدا له وعرفانا بالجميل.

ليست هناك تعليقات: